فصل: آدَابُ الْقَائِمِ بِالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: موعظة المؤمنين من إحياء علوم الدين



.الشُّرُوطُ الَّتِي بِهَا يَتَحَقَّقُ التَّصَدِّي لِلْإِنْكَارِ:

الْأَوَّلُ: كَوْنُهُ مُنْكَرًا وَهُوَ مَا كَانَ مَحْذُورَ الْوُقُوعِ فِي الشَّرْعِ، وَلَفْظُ الْمُنْكَرِ أَعَمُّ مِنْ لَفْظِ الْمَعْصِيَةِ، فَإِنَّ مَنْ رَأَى صَبِيًّا أَوْ مَجْنُونًا يَشْرَبُ الْخَمْرَ فَعَلَيْهِ أَنْ يُرِيقَ الْخَمْرَ، وَكَذَا إِنْ رَأَى مَجْنُونًا يَزْنِي بِمَجْنُونَةٍ أَوْ بَهِيمَةٍ أَنْ يَمْنَعَهُ مِنْهُ وَلَيْسَ ذَلِكَ مَعْصِيَةً فِي حَقِّ الْمَجْنُونِ. وَلَا يَخْتَصُّ الْمُنْكَرُ بِالْكَبَائِرِ، بَلْ كَشْفُ الْعَوْرَةِ فِي الْحَمَّامِ وَالْخَلْوَةُ بِالْأَجْنَبِيَّةِ وَإِتْبَاعُ النَّظَرِ لِلنِّسْوَةِ الْأَجْنَبِيَّاتِ كُلُّ ذَلِكَ مِنَ الصَّغَائِرِ وَيَجِبُ النَّهْيُ عَنْهَا.
الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْمُنْكَرُ ظَاهِرًا بِغَيْرِ تَجَسُّسٍ، فَكُلُّ مَنْ سَتَرَ مَعْصِيَةً فِي دَارِهِ وَأَغْلَقَ بَابَهُ لَا يَجُوزُ الدُّخُولُ عَلَيْهِ بِغَيْرِ إِذْنِهِ لِتُعْرَفَ الْمَعْصِيَةُ وَلَا أَنْ يُتَجَسَّسَ عَلَيْهِ، وَقَدْ نَهَى اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ فِي قَوْلِهِ: {وَلَا تَجَسَّسُوا} [الْحُجُرَاتِ: 12] وَكَذَا لَوْ رُئِيَ فَاسِقٌ وَتَحْتَ ذَيْلِهِ شَيْءٌ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُكْشَفَ عَنْهُ.
الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ كَوْنُهُ مُنْكَرًا مَعْلُومًا بِغَيْرِ اجْتِهَادٍ، فَكُلُّ مَا هُوَ فِي مَحَلِّ الِاجْتِهَادِ فَلَا نُكْرَانَ فِيهِ، فَلَيْسَ لِلْحَنَفِيِّ أَنْ يُنْكِرَ عَلَى الشَّافِعِيِّ مَا هُوَ مِنْ مَجَارِي الِاجْتِهَادِ، يَعْنِي الْمَسَائِلَ الْمُخْتَلَفَ فِيهَا بَيْنَ الْأَئِمَّةِ؛ إِذْ لَا يُعْلَمُ خَطَأُ الْمُخَالِفِ قَطْعًا بَلْ ظَنًّا، فَلَابُدَّ أَنْ يَكُونَ الْمُنْكَرُ مُتَّفَقًا عَلَيْهِ. وَكَذَا إِنَّمَا يُنْكَرُ عَلَى الْفِرَقِ الْمُبْتَدِعَةِ فِي خَطَئِهِمُ الْمَعْلُومِ عَلَى الْقَطْعِ بِخِلَافِ الْخَطَأِ فِي مَظَانِّ الِاجْتِهَادِ.

.دَرَجَاتُ الْقِيَامِ بِالْإِنْكَارِ:

الْأُولَى: التَّعْرِيفُ، أَيْ تَعْرِيفُ الْمَزْجُورِ أَنَّ مَا يَفْعَلُهُ مُنْكَرٌ؛ فَإِنَّهُ قَدْ يُقْدِمُ عَلَيْهِ بِجَهْلِهِ، فَلَعَلَّهُ إِذَا عَرَفَ أَنَّهُ مُنْكَرٌ تَرَكَهُ، فَيَجِبُ تَعْرِيفُهُ بِاللُّطْفِ مِنْ غَيْرِ عُنْفٍ، فَإِنَّ فِي التَّعْرِيفِ كَشْفًا لِلْعَوْرَةِ وَإِيذَاءً لِلْقَلْبِ، فَلَابُدَّ وَأَنْ يُعَالِجَ دَفْعَ أَذَاهُ بِلُطْفِ الرِّفْقِ فَتَقُولُ لَهُ: إِنَّ الْإِنْسَانَ لَا يُوَلَدُ عَالِمًا وَلَقَدْ كُنَّا جَاهِلِينَ فَعَلَّمَنَا الْعُلَمَاءُ، فَالصَّوَابُ هُوَ كَذَا وَكَذَا. فَيَتَلَطَّفُ بِهِ هَكَذَا لِيَصِلَ التَّعْرِيفُ مِنْ غَيْرِ إِيذَاءٍ، فَإِنَّ إِيذَاءَ الْمُسْلِمِ حَرَامٌ مَحْذُورٌ، كَمَا أَنَّ تَقْرِيرَهُ عَلَى الْمُنْكَرِ مَحْظُورٌ، وَلَيْسَ مِنَ الْعُقَلَاءِ مَنْ يَغْسِلُ الدَّمَ بِالدَّمِ أَوْ بِالْبَوْلِ، وَمَنْ آذَى بِالْإِنْكَارِ فَهَذَا مِثَالُهُ.
الدَّرَجَةُ الثَّانِيَةُ: النَّهْيُ بِالْوَعْظِ وَالنُّصْحِ وَالتَّخْوِيفِ بِاللَّهِ تَعَالَى، وَذَلِكَ فِيمَنْ يُقْدِمُ عَلَى الْأَمْرِ وَهُوَ عَالِمٌ بِكَوْنِهِ مُنْكَرًا، كَالَّذِي يُوَاظِبُ عَلَى الشُّرْبِ أَوْ عَلَى الظُّلْمِ أَوْ عَلَى اغْتِيَابِ الْمُسْلِمِينَ أَوْ مَا يَجْرِي مَجْرَاهُ، فَيَنْبَغِي أَنْ يُوعَظَ وَيُخَوَّفَ بِاللَّهِ تَعَالَى، وَتُورَدَ عَلَيْهِ الْأَخْبَارُ الْوَارِدَةُ بِالْوَعِيدِ فِي ذَلِكَ، وَتُحْكَى لَهُ سِيرَةُ السَّلَفِ وَعِبَادَةُ الْمُتَّقِينَ، وَكُلُّ ذَلِكَ بِشَفَقَةٍ وَلُطْفٍ مِنْ غَيْرِ عُنْفٍ وَغَضَبٍ بَلْ يَنْظُرُ إِلَيْهِ نَظَرَ الْمُتَرَحِّمِ عَلَيْهِ.
الدَّرَجَةُ الثَّالِثَةُ: التَّعْنِيفُ بِالْقَوْلِ الْغَلِيظِ وَذَلِكَ عِنْدَ الْعَجْزِ عَنِ الْمَنْعِ بِاللُّطْفِ وَظُهُورِ مَبَادِئِ الْإِصْرَارِ وَالِاسْتِهْزَاءِ بِالْوَعْظِ وَالنُّصْحِ، وَذَلِكَ مِثْلَ قَوْلِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: {أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ} [الْأَنْبِيَاءِ: 67] وَلَا يُفْحِشُ فِي سَبِّهِ. وَلِهَذِهِ الرُّتْبَةِ أَدَبَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ لَا يُقْدِمَ عَلَيْهَا إِلَّا عِنْدَ الضَّرُورَةِ وَالْعَجْزِ عَنِ اللُّطْفِ.
وَالثَّانِي: أَنْ لَا يَنْطِقَ إِلَّا بِالصِّدْقِ وَلَا يَسْتَرْسِلَ فِيهِ فَيُطِيلَ لِسَانَهُ بِمَا لَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ، بَلْ يَقْتَصِرُ عَلَى قَدْرِ الْحَاجَةِ.
الدَّرَجَةُ الرَّابِعَةُ: التَّغْيِيرُ بِالْيَدِ وَذَلِكَ كَإِرَاقَةِ الْخَمْرِ وَإِتْلَافِ الْمُنْكَرِ الْمُتَمَوَّلِ أَوْ دَفْعِهِ عَنْ مُحَرَّمٍ. وَلَيْسَ إِلَى آحَادِ الرَّعِيَّةِ إِلَّا الدَّفْعُ، وَأَمَّا الْإِرَاقَةُ وَالْإِتْلَافُ فَإِلَى الْوُلَاةِ وَمَأْذُونِيهِمْ كَالضَّرْبِ وَالْحَبْسِ.

.آدَابُ الْقَائِمِ بِالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ:

جُمْلَتُهَا ثَلَاثُ صِفَاتٍ: الْعِلْمُ وَالْوَرَعُ وَحُسْنُ الْخُلُقِ.
وَأَمَّا الْعِلْمُ: فَلْيَعْلَمْ مَوَاقِعَ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ لِيَقْتَصِرَ عَلَى حَدِّ الشَّرْعِ فِيهِ.
وَأَمَّا الْوَرَعُ: فَلْيَرْدَعْهُ عَنْ مُخَالَفَةٍ مَعْلُومَةٍ، وَلَا يَحْمِلْهُ عَلَى مُجَاوَزَةِ الْحَدِّ الْمَأْذُونِ شَرْعًا غَرَضٌ مِنَ الْأَغْرَاضِ، وَلِيَكُونَ كَلَامُهُ مَقْبُولًا فَإِنَّ الْفَاسِقَ يَهْزَأُ بِهِ إِذَا أَمَرَ أَوْ نَهَى وَيُورِثُ ذَلِكَ جَرَاءَةً عَلَيْهِ.
وَأَمَّا حُسْنُ الْخُلُقِ: فَلْيَتَمَكَّنْ بِهِ مِنَ اللُّطْفِ وَالرِّفْقِ وَهُوَ أَصْلُ الْبَابِ وَأَسَاسُهُ، وَالْعِلْمُ وَالْوَرَعُ لَا يَكْفِيَانِ فِيهِ، فَإِنَّ الْغَضَبَ إِذَا هَاجَ لَمْ يَكْفِ مُجَرَّدُ الْعِلْمِ وَالْوَرَعِ فِي قَمْعِهِ مَا لَمْ يَكُنْ فِي الطَّبْعِ قَبُولٌ لَهُ بِحُسْنِ الْخُلُقِ. وَبِوُجُودِ هَذِهِ الصِّفَاتِ الثَّلَاثِ يَصِيرُ الْإِرْشَادُ مِنَ الْقُرُبَاتِ وَبِهِ تَنْدَفِعُ الْمُنْكَرَاتُ، وَإِنْ فُقِدَتْ لَمْ يَنْدَفِعِ الْمُنْكَرُ، وَقَدْ حُكِيَ أَنَّ الْمَأْمُونَ وَعَظَهُ وَاعِظٌ وَعَنَّفَ لَهُ فِي الْقَوْلِ فَقَالَ: يَا رَجُلُ ارْفُقْ فَقَدْ بَعَثَ اللَّهُ مَنْ هُوَ خَيْرٌ مِنْكَ إِلَى مَنْ هُوَ شَرٌّ مِنِّي وَأَمَرَهُ بِالرِّفْقِ فَقَالَ تَعَالَى: {فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [طه: 44] فَلْيَكُنِ اقْتِدَاءُ الْمُرْشِدِ فِي الرِّفْقِ بِالْأَنْبِيَاءِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ.

.الْمُنْكَرَاتُ الْمَأْلُوفَةُ فِي الْعَادَاتِ:

.مُنْكَرَاتُ الْمَسَاجِدِ:

اعْلَمْ أَنَّ الْمُنْكَرَاتِ تَنْقَسِمُ إِلَى مَكْرُوهَةٍ وَمَحْظُورَةٍ، فَإِذَا قُلْنَا هَذَا مُنْكَرٌ مَكْرُوهٌ فَاعْلَمْ أَنَّ الْمَنْعَ مِنْهُ مُسْتَحَبٌّ وَالسُّكُوتَ عَلَيْهِ مَكْرُوهٌ وَلَيْسَ بِحَرَامٍ، وَإِذَا قُلْنَا مُنْكَرٌ مَحْظُورٌ أَوْ قُلْنَا مُنْكَرٌ مُطْلَقًا فَنُرِيدُ بِهِ الْمَحْظُورَ، وَيَكُونُ السُّكُوتُ عَلَيْهِ مَعَ الْقُدْرَةِ مَحْظُورًا، فَمِمَّا يُشَاهَدُ كَثِيرًا فِي الْمَسَاجِدِ إِسَاءَةُ الصَّلَاةِ بِتَرْكِ الطُّمَأْنِينَةِ فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ، وَهُوَ مُنْكَرٌ مُبْطِلٌ لِلصَّلَاةِ بِنَصِّ الْحَدِيثِ فَيَجِبُ النَّهْيُ عَنْهُ، وَمَنْ رَأَى مُسِيئًا فِي صَلَاتِهِ فَسَكَتَ عَلَيْهِ فَهُوَ شَرِيكُهُ. وَمِنْهَا قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ مَلْحُونَةً فَيَجِبُ النَّهْيُ عَنْ ذَلِكَ وَتَلْقِينُ الصَّحِيحِ، وَالَّذِي يُكْثِرُ اللَّحْنَ فِي الْقُرْآنِ إِنْ كَانَ قَادِرًا عَلَى التَّعَلُّمِ فَلْيُمْنَعْ عَنِ الْقِرَاءَةِ قَبْلَ التَّعَلُّمِ فَإِنَّهُ عَاصٍ بِهِ. وَمِنْهَا تَرَاسُلُ الْمُؤَذِّنِينَ فِي الْأَذَانِ وَتَطْوِيلُهُمْ بِمَدِّ كَلِمَاتِهِ فَذَلِكَ مُنْكَرٌ مَكْرُوهٌ. وَمِنْهَا كَلَامُ الْقُصَّاصِ وَالْوُعَّاظِ الَّذِينَ يَمْزُجُونَ بِكَلَامِهِمُ الْكَذِبَ وَالْأَضَالِيلَ وَالْخُرَافَاتِ فَيَجِبُ الْإِنْكَارُ عَلَيْهِمْ. وَمِنْهَا التَّحَلُّقُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ لِبَيْعِ الْأَدْوِيَةِ وَالْأَطْعِمَةِ وَالتَّعْوِيذَاتِ، وَكَقِيَامِ السُّؤَّالِ وَقِرَاءَتِهِمُ الْقُرْآنَ وَإِنْشَادِهِمُ الْأَشْعَارَ وَمَا يَجْرِي مَجْرَاهُ فَكُلُّ ذَلِكَ مُنْكَرٌ يُمْنَعُونَ مِنْهُ. وَمِنْهَا بَيْعُ الْأَطْعِمَةِ وَالْأَدْوِيَةِ وَالْكُتُبِ وَكَذَا الْخِيَاطَةُ فَيُطْلَبُ الْمَنْعُ مِنْهُ؛ لِأَنَّ الْمَسَاجِدَ لَمْ تُبْنَ لِهَذَا. وَمِنْهَا دُخُولُ الْمَجَانِينِ- الْمَعْرُوفِينَ الْآنَ بِالْمَجَاذِيبِ- وَالصِّبْيَانِ وَالسُّكَارَى فَإِنَّهُمْ يُجَنَّبُونَ الْمَسَاجِدَ. وَقَدْ أَوْسَعْنَا الْكَلَامَ عَلَى مُنْكَرَاتِ الْمَسَاجِدِ وَبِدَعِهَا وَعَوَائِدِهَا فِي كِتَابٍ أَفْرَدْنَاهُ لِذَلِكَ فَلْيَرْجِعْ إِلَيْهِ مَنْ أَرَادَهُ.

.مُنْكَرَاتُ الْأَسْوَاقِ:

مِنَ الْمُنْكَرَاتِ الْمُعْتَادَةِ فِي الْأَسْوَاقِ الْكَذِبُ فِي الْمُرَابَحَةِ وَإِخْفَاءُ الْعَيْبِ، فَمَنْ قَالَ: اشْتَرَيْتُ هَذِهِ السِّلْعَةَ مَثَلًا بِعَشَرَةٍ وَأَرْبَحُ فِيهَا كَذَا وَكَانَ كَاذِبًا فَهُوَ فَاسِقٌ، وَعَلَى مَنْ عَرَفَ ذَلِكَ أَنْ يُخْبِرَ الْمُشْتَرِيَ بِكَذِبِهِ، فَإِنْ سَكَتَ مُرَاعَاةً لِقَلْبِ الْبَائِعِ كَانَ شَرِيكًا لَهُ فِي الْخِيَانَةِ وَعَصَى بِسُكُوتِهِ، وَكَذَا إِذَا عَلِمَ بِهِ عَيْبًا فَيَلْزَمُهُ أَنْ يُنَبِّهَ الْمُشْتَرِيَ عَلَيْهِ وَإِلَّا كَانَ رَاضِيًا بِضَيَاعِ مَالِ أَخِيهِ الْمُسْلِمِ وَهُوَ حَرَامٌ، وَكَذَا التَّفَاوُتُ فِي الذِّرَاعِ وَالْمِكْيَالِ وَالْمِيزَانِ يَجِبُ عَلَى كُلِّ مَنْ عَرَفَهُ تَغْيِيرُهُ بِنَفْسِهِ أَوْ رَفْعُهُ إِلَى الْوَالِي حَتَّى يُغَيِّرَهُ، وَمِنْهَا بَيْعُ الْمَلَاهِي وَتَلْبِيسُ انْخِرَاقِ الثِّيَابِ بِالرَّفْوِ، وَكُلُّ مَا يُؤَدِّي إِلَى التَّلْبِيسَاتِ، وَذَلِكَ يَطُولُ إِحْصَاؤُهُ فَلْيُقَسْ بِمَا ذَكَرْنَاهُ مَا لَمْ نَذْكُرْهُ.

.مُنْكَرَاتُ الشَّوَارِعِ:

مِنَ الْمُنْكَرَاتِ الْمُعْتَادَةِ فِيهَا وَضْعُ الْخَشَبِ وَأَحْمَالُ الْحُبُوبِ وَالْأَطْعِمَةِ عَلَى الطُّرُقِ وَإِخْرَاجُ الْأَجْنِحَةِ، فَكُلُّ ذَلِكَ مُنْكَرٌ إِنْ كَانَ يُؤَدِّي إِلَى تَضْيِيقِ الطُّرُقِ وَاسْتِضْرَارِ الْمَارَّةِ، وَإِنْ لَمْ يُؤَدِّ إِلَى ضَرَرٍ أَصْلًا لِسَعَةِ الطَّرِيقِ فَلَا يُمْنَعُ مِنْهُ؛ نَعَمْ يَجُوزُ وَضْعُ الْحَطَبِ وَأَحْمَالِ الْأَطْعِمَةِ فِي الطَّرِيقِ فِي الْقَدْرِ الَّذِي يُنْقَلُ إِلَى الْبُيُوتِ فَإِنَّ ذَلِكَ يَشْتَرِكُ فِي الْحَاجَةِ إِلَيْهِ الْكَافَّةُ وَلَا يُمْكِنُ الْمَنْعُ مِنْهُ. وَكَذَلِكَ رَبْطُ الدَّوَابِّ عَلَى الطَّرِيقِ بِحَيْثُ يَضِيقُ الطَّرِيقُ وَيُنَجِّسُ الْمُجْتَازِينَ مُنْكَرٌ يَجِبُ الْمَنْعُ مِنْهُ إِلَّا بِقَدْرِ حَاجَةِ النُّزُولِ وَالرُّكُوبِ، وَهَذَا لِأَنَّ الشَّوَارِعَ مُشْتَرَكَةُ الْمَنْفَعَةِ وَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَخْتَصَّ بِهَا إِلَّا بِقَدْرِ الْحَاجَةِ، وَالْمَرْعِيُّ هُوَ الْحَاجَةُ الَّتِي تُرَادُ الشَّوَارِعُ لِأَجْلِهَا فِي الْعَادَةِ دُونَ سَائِرِ الْحَاجَاتِ. وَمِنْهَا سَوْقُ الدَّوَابِّ وَعَلَيْهَا الشَّوْكُ بِحَيْثُ يُمَزِّقُ ثِيَابَ النَّاسِ فَذَلِكَ مُنْكَرٌ إِنْ أَمْكَنَ شَدُّهَا وَضَمُّهَا بِحَيْثُ لَا تُمَزِّقُ، أَوْ أَمْكَنَ الْعُدُولُ بِهَا إِلَى مَوْضِعٍ وَاسِعٍ، وَإِلَّا فَلَا مَنْعَ، إِذْ حَاجَةُ أَهْلِ الْبَلَدِ تَمَسُّ إِلَى ذَلِكَ، نَعَمْ لَا تُتْرَكُ مُلْقَاةً عَلَى الشَّوَارِعِ إِلَّا بِقَدْرِ مُدَّةِ النَّقْلِ. وَكَذَلِكَ تَحْمِيلُ الدَّوَابِّ مِنَ الْأَحْمَالِ مَا لَا تُطِيقُهُ مُنْكَرٌ بِحَيْثُ مَنَعَ الْمُلَّاكُ مِنْهُ. وَكَذَلِكَ طَرْحُ الْقُمَامَةِ عَلَى جَوَانِبِ الطَّرِيقِ وَتَبْدِيدُ قُشُورِ الْبِطِّيخِ أَوْ رَشُّ الْمَاءِ بِحَيْثُ يُخْشَى مِنْهُ التَّزَلُّقُ وَالتَّعَثُّرُ، كُلُّ ذَلِكَ مِنَ الْمُنْكَرَاتِ. وَكَذَلِكَ إِرْسَالُ الْمَاءِ مِنَ الْمَيَازِيبِ الْمُتَخَرِّجَةِ مِنَ الْحَائِطِ فِي الطَّرِيقِ الضَّيِّقَةِ فَإِنَّ ذَلِكَ يُنَجِّسُ الثِّيَابَ أَوْ يُضَيِّقُ الطَّرِيقَ، وَكَذَلِكَ الثَّلْجُ الَّذِي يَطْرَحُهُ شَخْصٌ فِي الطَّرِيقِ وَالْمَاءُ الَّذِي يَجْتَمِعُ فِيهِ مِنْ مِيزَابٍ مُعَيَّنٍ، فَعَلَى الْأَوَّلِ وَالثَّانِي كَسْحُ الطَّرِيقِ مِنْهُمَا، وَأَمَّا مِيَاهُ الْمَطَرِ فَتِلْكَ عَلَى مُحْتَسِبِي الْبَلْدَةِ كَسْحُهَا مِنَ الطَّرِيقِ، وَكَذَلِكَ إِذَا كَانَ لَهُ كَلْبٌ عَقُورٌ عَلَى بَابِ دَارِهِ يُؤْذِي النَّاسَ فَيَجِبُ مَنْعُهُ مِنْهُ.

.مُنْكَرَاتُ الْحَمَّامَاتِ:

مِنْهَا كَشْفُ الْعَوْرَاتِ وَالنَّظَرُ فِيهَا، وَمِنْ جُمْلَتِهَا كَشْفُ الدَّلَّاكِ عَنِ الْفَخِذِ وَمَا تَحْتَ السُّرَّةِ لِتَنْحِيَةِ الْوَسَخِ، بَلْ مِنْ جُمْلَتِهَا إِدْخَالُ الْيَدِ تَحْتَ الْإِزَارِ فَإِنَّ مَسَّ عَوْرَةِ الْغَيْرِ حَرَامٌ كَالنَّظَرِ إِلَيْهَا. وَمِنْهَا الِانْبِطَاحُ عَلَى الْوَجْهِ بَيْنَ يَدَيِ الدَّلَّاكِ لِتَغْمِيزِ الْأَفْخَاذِ وَالْأَعْجَازِ فَهَذَا مَكْرُوهٌ إِنْ كَانَ مَعَ حَائِلٍ، وَلَا يَحْرُمُ إِلَّا إِذَا خُشِيَ حَرَكَةُ الشَّهْوَةِ. وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ فِي مَدَاخِلِ بُيُوتِ الْحَمَّامِ وَمَجَارِي مِيَاهِهَا حِجَارَةٌ مَلْسَاءُ مَزْلَقَةٌ يَزْلَقُ عَلَيْهَا الْغَافِلُونَ فَهَذَا مُنْكَرٌ وَيَجِبُ قَلْعُهُ وَإِزَالَتُهُ، وَيُنْكَرُ عَلَى الْحَمَّامِيِّ إِهْمَالُهُ فَإِنَّهُ يُفْضِي إِلَى السَّقْطَةِ، وَقَدْ تُؤَدِّي السَّقْطَةُ إِلَى انْكِسَارِ عُضْوٍ أَوِ انْخِلَاعِهِ، وَكَذَلِكَ تَرْكُ الصَّابُونِ عَلَى أَرْضِ الْحَمَّامِ مُنْكَرٌ، وَفِي الْحَمَّامِ أُمُورٌ أُخَرُ مَكْرُوهَةٌ تَقَدَّمَ فِي كِتَابِ الطَّهَارَةِ.

.مُنْكَرَاتُ الضِّيَافَةِ:

مِنْهَا فَرْشُ الْحَرِيرِ لِلرِّجَالِ وَتَبْخِيرُ الْبَخُورِ فِي مِجْمَرَةِ ذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ وَالشُّرْبُ فِي أَوَانِي الْفِضَّةِ. وَمِنْهَا سَمَاعُ الْقَيْنَاتِ أَيِ النِّسَاءِ الْمُغَنِّيَاتِ. وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ الطَّعَامُ حَرَامًا أَوِ الْمَوْضِعُ مَغْصُوبًا. وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ فِيهَا مَنْ يَتَعَاطَى شُرْبَ الْخَمْرِ فَلَا يَجُوزُ الْحُضُورُ، وَإِنْ كَانَ فِيهَا مُضْحِكٌ بِالْحِكَايَاتِ وَأَنْوَاعِ النَّوَادِرِ فَإِنْ كَانَ يُضْحِكُ بِالْفُحْشِ وَالْكَذِبِ لَمْ يَجُزِ الْحُضُورُ، وَعِنْدَ الْحُضُورِ يَجِبُ الْإِنْكَارُ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ بِمَزْحٍ لَا كَذِبَ فِيهِ وَلَا فُحْشَ فَهُوَ مُبَاحٌ أَعْنِي مَا يُقِلُّ مِنْهُ، فَأَمَّا اتِّخَاذُهُ صَنْعَةً وَعَادَةً فَلَيْسَ بِمُبَاحٍ. وَمِنْهَا الْإِسْرَافُ فِي الطَّعَامِ وَالْبِنَاءِ فَهُوَ مُنْكَرٌ، بَلْ فِي الْمَالِ مُنْكَرَانِ: أَحَدُهُمَا الْإِضَاعَةُ، وَالْآخَرُ الْإِسْرَافُ، فَالْإِضَاعَةُ تَفْوِيتُ مَالٍ بِلَا فَائِدَةٍ يُعْتَدُّ بِهَا كَإِحْرَاقِ الثَّوْبِ وَتَمْزِيقِهِ وَفِي مَعْنَاهُ صَرْفُ الْمَالِ إِلَى النَّائِحَةِ وَالْمُنْكَرَاتِ، وَقَدْ يُطْلَقُ عَلَى الصَّرْفِ إِلَى الْمُبَاحَاتِ فِي جِنْسِهَا وَلَكِنْ مَعَ الْمُبَالَغَةِ، وَالْمُبَالَغَةُ تَخْتَلِفُ بِالْإِضَافَةِ إِلَى الْأَحْوَالِ قَالَ تَعَالَى: {وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا} [الْإِسْرَاءِ: 29] وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا} [الْإِسْرَاءِ: 26- 27] وَقَالَ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا} [الْفُرْقَانِ: 67] فَمَنْ لَمْ يَمْلِكْ إِلَّا مِائَةَ دِينَارٍ مَثَلًا وَمَعَهُ عِيَالُهُ وَأَوْلَادُهُ وَلَا مَعِيشَةَ لَهُمْ سِوَاهُ فَأَنْفَقَ الْجَمِيعَ فِي وَلِيمَةٍ فَهُوَ مُسْرِفٌ يَجِبُ مَنْعُهُ مِنْهُ، وَكَذَا لَوْ صَرَفَ جَمِيعَ مَالِهِ إِلَى نُقُوشِ حِيطَانِهِ وَتَزْيِينِ بُنْيَانِهِ فَهُوَ أَيْضًا إِسْرَافٌ مُحَرَّمٌ، وَأَمَّا فِعْلُ ذَلِكَ مِمَّنْ لَهُ مَالٌ كَثِيرٌ فَلَيْسَ بِحَرَامٍ؛ لِأَنَّ التَّزْيِينَ مِنَ الْأَغْرَاضِ الصَّحِيحَةِ، وَكَذَلِكَ الْقَوْلُ فِي التَّجَمُّلِ بِالثِّيَابِ وَالْأَطْعِمَةِ فَذَلِكَ مُبَاحٌ فِي جِنْسِهِ وَيَصِيرُ إِسْرَافًا بِاعْتِبَارِ حَالِ الرَّجُلِ وَثَرْوَتِهِ.

.الْمُنْكَرَاتُ الْعَامَّةُ:

اعْلَمْ أَنَّ كُلَّ قَاعِدٍ فِي بَيْتِهِ أَيْنَمَا كَانَ فَلَيْسَ خَالِيًا فِي هَذَا الزَّمَانِ عَنْ مُنْكَرٍ مِنْ حَيْثُ التَّقَاعُدُ عَنْ إِرْشَادِ النَّاسِ وَتَعْلِيمِهِمْ وَحَمْلِهِمْ عَلَى الْمَعْرُوفِ، فَأَكْثَرُ النَّاسِ جَاهِلُونَ بِالشَّرْعِ فِي الْبِلَادِ فَكَيْفَ فِي الْقُرَى وَالْبَوَادِي، فَوَاجِبٌ أَنْ يَكُونَ فِي كُلِّ مَسْجِدٍ وَمَحَلَّةٍ مِنَ الْبَلَدِ فَقِيهٌ يُعَلِّمُ النَّاسَ دِينَهُمْ، وَكَذَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ، وَوَاجِبٌ عَلَى كُلِّ فَقِيهٍ فَرَغَ مِنْ فَرْضِ عَيْنِهِ وَتَفَرَّغَ لِفَرْضِ الْكِفَايَةِ أَنْ يَخْرُجَ إِلَى مَنْ يُجَاوِرُ بَلَدَهُ مِنْ أَهْلِ السَّوَادِ وَالْعَرَبِ وَيُعَلِّمُهُمْ دِينَهُمْ وَفَرَائِضَ شَرْعِهِمْ، فَإِنْ قَامَ بِهَذَا الْأَمْرِ وَاحِدٌ سَقَطَ الْحَرَجُ عَنِ الْبَاقِينَ. وَبِالْجُمْلَةِ فَحَقٌّ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ أَنْ يَبْدَأَ بِنَفْسِهِ فَيُصْلِحَهَا بِالْمُوَاظَبَةِ عَلَى الْفَرَائِضِ وَتَرْكِ الْمُحَرَّمَاتِ، ثُمَّ يُعَلِّمُ ذَلِكَ أَهْلَ بَيْتِهِ، ثُمَّ يَتَعَدَّى بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْهُمْ فِي جِيرَانِهِ، ثُمَّ إِلَى أَهْلِ مَحَلَّتِهِ، ثُمَّ إِلَى أَهْلِ بَلَدِهِ، ثُمَّ إِلَى أَهْلِ السَّوَادِ الْمُكْتَنِفِ بِبَلَدِهِ، ثُمَّ إِلَى أَهْلِ الْبَوَادِي، وَهَكَذَا إِلَى أَقْصَى الْعَالَمِ، فَإِنْ قَامَ بِهِ الْأَدْنَى سَقَطَ عَنِ الْأَبْعَدِ وَإِلَّا حَرَجَ بِهِ كُلُّ قَادِرٍ عَلَيْهِ قَرِيبًا كَانَ أَوْ بَعِيدًا.

.كِتَابُ الْآدَابِ النَّبَوِيَّةِ وَالْأَخْلَاقِ الْمُحَمَّدِيَّةِ:

.بَيَانُ تَأْدِيبِ اللَّهِ تَعَالَى صَفِيَّهُ مُحَمَّدًا صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ بِالْقُرْآنِ:

كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَثِيرَ الضَّرَاعَةِ وَالِابْتِهَالِ، دَائِمَ السُّؤَالِ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى أَنْ يُزَيِّنَهُ بِمَحَاسِنِ الْآدَابِ وَمَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ، فَكَانَ يَقُولُ فِي دُعَائِهِ: «اللَّهُمَّ حَسِّنْ خُلُقِي وَخَلْقِي» وَيَقُولُ: «اللَّهُمَّ جَنِّبْنِي مُنْكَرَاتِ الْأَخْلَاقِ» فَاسْتَجَابَ اللَّهُ تَعَالَى دُعَاءَهُ وَفَاءً بِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غَافِرٍ: 60] فَأَنْزَلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنَ وَأَدَّبَهُ فَكَانَ خُلُقُهُ الْقُرْآنَ، وَإِنَّمَا أَدَّبَهُ الْقُرْآنُ بِمِثْلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [الْأَعْرَافِ: 199] وَقَوْلِهِ: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ} [النَّحْلِ: 90] وَقَوْلِهِ: {وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} [لُقْمَانَ: 17] وَقَوْلِهِ: {فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [الْمَائِدَةِ: 13] وَقَوْلِهِ: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} [فُصِّلَتْ: 34] وَقَوْلِهِ: {وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ} [آلِ عِمْرَانَ: 134] وَقَوْلِهِ: {اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا} [الْحُجُرَاتِ: 12] وَأَمْثَالُ هَذِهِ التَّأْدِيبَاتِ فِي الْقُرْآنِ لَا تُحْصَرُ.
وَهُوَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ الْمَقْصُودُ الْأَوَّلُ بِالتَّأْدِيبِ وَالتَّهْذِيبِ ثُمَّ مِنْهُ يُشْرِقُ النُّورُ عَلَى كَافَّةِ الْخَلْقِ، فَإِنَّهُ أُدِّبَ بِالْقُرْآنِ وَأَدَّبَ الْخَلْقَ بِهِ. وَلِذَلِكَ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «بُعِثْتُ لِأُتَمِّمَ مَكَارِمَ الْأَخْلَاقِ» ثُمَّ رَغَّبَ الْخَلْقَ فِي مَحَاسِنِ الْأَخْلَاقِ. ثُمَّ لَمَّا أَكْمَلَ اللَّهُ تَعَالَى خُلُقَهُ أَثْنَى عَلَيْهِ فَقَالَ تَعَالَى: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [الْقَلَمِ: 4] ثُمَّ بَيَّنَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ لِلْخَلْقِ أَنَّ اللَّهَ يُحِبُّ مَكَارِمَ الْأَخْلَاقِ وَيَبْغَضُ سَفْسَافَهَا. قَالَ علي رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: يَا عَجَبًا لِرَجُلٍ مُسْلِمٍ يَجِيئُهُ أَخُوهُ الْمُسْلِمُ فِي حَاجَةٍ فَلَا يَرَى نَفْسَهُ لِلْخَيْرِ أَهْلًا، فَلَوْ كَانَ لَا يَرْجُو ثَوَابًا وَلَا يَخْشَى عِقَابًا لَقَدْ كَانَ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُسَارِعَ إِلَى مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ، فَإِنَّهَا مِمَّا تَدُلُّ عَلَى سَبِيلِ النَّجَاةِ.
وَفِي الْحَدِيثِ: «إِنَّ اللَّهَ حَفَّ الْإِسْلَامَ بِمَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ وَمَحَاسِنِ الْأَعْمَالِ».
وَمِنْ ذَلِكَ: حُسْنُ الْمُعَاشَرَةِ، وَكَرَمُ الصَّنِيعَةِ، وَلِينُ الْجَانِبِ، وَبَذْلُ الْمَعْرُوفِ، وَإِطْعَامُ الطَّعَامِ، وَإِفْشَاءُ السَّلَامِ، وَعِيَادَةُ الْمَرِيضِ الْمُسْلِمِ، وَتَشْيِيعُ الْجِنَازَةِ، وَحُسْنُ الْجِوَارِ لِمَنْ جَاوَرْتَ مُسْلِمًا كَانَ أَوْ كَافِرًا، وَتَوْقِيرُ ذِي الشَّيْبَةِ الْمُسْلِمِ، وَإِجَابَةُ الطَّعَامِ وَالدُّعَاءُ عَلَيْهِ، وَالْعَفْوُ، وَالْإِصْلَاحُ بَيْنَ النَّاسِ، وَالْجُودُ وَالْكَرَمُ وَالسَّمَاحَةُ، وَكَظْمُ الْغَيْظِ، وَاجْتِنَابُ الْمَحَارِمِ وَالْغِيبَةِ وَالْكَذِبِ وَالْبُخْلِ وَالشُّحِّ وَالْجَفَاءِ وَالْمَكْرِ وَالْخَدِيعَةِ وَالنَّمِيمَةِ وَسُوءِ ذَاتِ الْبَيْنِ وَقَطِيعَةِ الْأَرْحَامِ وَسُوءِ الْخُلُقِ وَالتَّكَبُّرِ وَالْفَخْرِ وَالِاخْتِيَالِ وَالِاسْتِطَالَةِ وَالْبَذَخِ وَالْفُحْشِ وَالتَّفَحُّشِ وَالْحِقْدِ وَالْحَسَدِ وَالطِّيَرَةِ وَالْبَغْيِ وَالْعُدْوَانِ وَالظُّلْمِ.
قَالَ أنس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: فَلَمْ يَدَعْ نَصِيحَةً جَمِيلَةً إِلَّا وَقَدْ دَعَانَا إِلَيْهَا وَأَمَرَنَا بِهَا، وَلَمْ يَدَعْ غِشًّا أَوْ عَيْبًا إِلَّا حَذَّرَنَاهُ وَنَهَانَا عَنْهُ.
وَيَكْفِي مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ هَذِهِ الْآيَةُ: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [النَّحْلِ: 90] وَقَالَ معاذ أَوْصَانِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: «يَا معاذ أُوصِيكَ بِتَقْوَى اللَّهِ، وَصِدْقِ الْحَدِيثِ، وَالْوَفَاءِ بِالْعَهْدِ، وَأَدَاءِ الْأَمَانَةِ، وَتَرْكِ الْخِيَانَةِ، وَحِفْظِ الْجَارِ، وَرَحْمَةِ الْيَتِيمِ، وَلِينِ الْكَلَامِ، وَبَذْلِ السَّلَامِ، وَحُسْنِ الْعَمَلِ، وَقَصْرِ الْأَمَلِ، وَلُزُومِ الْإِيمَانِ، وَالتَّفَقُّهِ فِي الْقُرْآنِ، وَحُبِّ الْآخِرَةِ، وَالْجَزَعِ مِنَ الْحِسَابِ، وَخَفْضِ الْجَنَاحِ. وَأَنْهَاكَ أَنْ تَسُبَّ حَكِيمًا، أَوْ تُكَذِّبَ صَادِقًا، أَوْ تُطِيعَ آثِمًا، أَوْ تَعْصِيَ إِمَامًا عَادِلًا، أَوْ تُفْسِدَ أَرْضًا. وَأُوصِيكَ بِاتِّقَاءِ اللَّهِ عِنْدَ كُلِّ حَجَرٍ وَشَجَرٍ وَمَدَرٍ، وَأَنْ تُحْدِثَ لِكُلِّ ذَنْبٍ تَوْبَةً، السِّرُّ بِالسِّرِّ، وَالْعَلَانِيَةُ بِالْعَلَانِيَةِ». فَهَكَذَا أَدَّبَ عِبَادَ اللَّهِ وَدَعَاهُمْ إِلَى مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ وَمَحَاسِنِ الْآدَابِ.